التقمص ( محمد خليل الباشا)
إن الأرواح عندما خلقها الله نفحات من روحه لكي تعمر الكون كانت متساوية ,
و على درجة واحدة من الطيبة و البساطة و الجهل , و فيها عقل لتكون لها حرية
الاختيار في حيّز قانون كوني عام , و فرض عليها أن تندرج قدماً في الاختبار و
التجربة لتتخلص مما فيها من ضدية فتتداول الجسوم من حياة إلى حياة , تمارس
فيها الفضائل و تكتسب فيها المعرفة لكي تستكمل سعادتها باكتمال رقيها
العقلي و الأدبي صعداً نحو الملأ الأعلى .
هذه هي نظرية التقمص العريقة في القدم التي أعلنها ( فيثاغورس ) الحكيم و
علّمها بعده أفلاطون و لفيف من كبار الفلاسفة و قالت بها عدة مذاهب دينية و
فلسفية و يؤمن بها الآن نصف سكان الأرض .
هذه النظرية نظرية التقمص و التي تناولت أموراً أخرى :
الغاية من التقمص .
عدد المرات التي تتقمص فيها الروح .
الفاصل الزمني بين كل تقمص و أخر .
هل العودة اجبارية أو اختيارية .
فمن حيث صحة التقمص تبين أن ثمة أسئلة كثيرة لا يمكن الإجابة عنها إلا
بقبول نظرية التقمص , منها أن النفس إذا كانت خالدة و هي كذلك أين كانت قبل
الولادة و أين تذهب بعد الموت , لأن كل خالد يجب أن يكون آتياً من الأزل , و
إذا كانت خلقت من العدم عند الولادة فلا يمكن أن تكون خالدة لأن العدم
مصيره العدم , و هي ليست كذلك .
و منها أن الذين يولدون مكفوفي النظر أو مشوهين أو معوقين فما ذنبهم ؟ و هل
صحيح أن الآباء يأكلون الحصرم و الأبناء يضرسون ؟ و هل يتفق هذا مع العدالة
الإلهية ؟
و منها السؤال عن الحكمة في توالي النكبات و المصائب على أشخاص معروفين
بحسن السيرة و طيب السريرة , في حين أن الخيرات و النعم تتدفق على من لا
يرى فيهم ما يستحق ذلك و حاشا الله إلا أن يكون كلي العدالة .
و منها السؤال عن سبب التفاوت في الأخلاق و الصفات و الذكاء بين أخوين و قد
ربيا في بيت واحد و محيط واحد .
تجيب نظرية التقمص عما ذكرناه :
بأن الروح ما دامت خالدة فيجب أن يكون لها ماض قبل الولادة و أن يكون لها
مستقبل بعد الموت , و لا يمكن أن تكون الروح الخالدة آتية من العدم ثم تغرق
بعد الموت في بطالة الانتظار غير المجدي الذي يمتد و يتطاول جزافاً إلى يوم
القيامة لإجراء الحساب .
و بأن الذين يولدون مشوهين إنما هم يكفرون عن ذنوب فرطت منهم في حيوات
سابقة و كذلك الذين تتوالى عليهم النكبات وهم في الظاهر على صلاح في
اعمالهم و نحن نجهل باطنهم و ماضيهم و لا نستطيع الحكم عليهم . و ربما كانت
هذه المصائب لابتلاء صبرهم و إيمانهم فتكون كالصهر للذهب فيُطهر و ينقى .
إن الخيرات التي نراها تنزل على غير مستحقيها ليس ثمة ما يؤكد لنا أنهم لا
يستحقونها , إذا كانوا كذلك فإنما هي تجربة لهم فإما أن يستفيدوا منها
فتساعدهم على التقدم و إما أن تلهيهم الغواية فيحاسبون عن ذلك في هذه
الحياة أو في حيوات أخرى .
إن التباين بين الأخوين مرده إلى تباين قائم بينهما في عدد تقمصات كل منهما
و مدى استفادتهما من حيواتهما السابقة و مستوى تدرجهما في سلم الاختبار و
الصفاء و النقاء . و لا يمكن أن يكون الله سبحانه ظالماً فيميز بين خلقه .
أضف إلى ذلك أن التنويم المغناطيسي استطاع في درجاته العالية أن يعيد
المنوم إلى تقمصات سابقة يصفها وصفاً أمكن التثبت منه بعدئذ في كثير من
الحالات و كذلك في الجلسات الروحية .
و إن التذكر أي أن يستبقي عقل بعض الأشخاص شيئاً من ذكريات التقمص السابق
فيصفون ماضيهم أوصافاً أمكن التثبت منها .
أما الغاية من التقمص :
إن الروح تكون إنساناً جديداً في كل تقمص , يكمن فيه كل ما اكتسب سابقاً من
الصفات العقلية و الأدبية فيستطيع بوحيها القيام بمهماته في هذا التقمص
فيحرز الترقي العقلي باضطراره لقضاء ضرورات الجسد المقيد به , و هذه
الضرورات هي كالمهماز يهيب به دواماً إلى العمل المستمر , و بذلك تتسع قواه
العقلية باتساع اختباراته و تجاربه و تتحسن أوضاع البيئة التي يعيش فيها
بسعيه لتحسين أوضاعه المادية و الحضارية . و يحرز الترقي الأدبي بالتفاعل
مع المجتمع الذي يحتاج فيه الناس بعضهم إلى بعض فتكون الألفة الاجتماعية
محكاً للصفات الحسنة و الرديئة .
الغاية من اتخاذ الروح الجسد لباساً لها هي الأختبار و التجربة في طريق
التسامي و الترقي لتحقيق الذات و بلوغ الصفاء و النقاء , و هذه لا يمكن أن
تتحقق في خلال السنوات القصيرة المعدودة للإنسان في التقمص الواحد , فكيف
إذا ما مات شاباً أو طفلاً , و ما هي قيمة السنوات مهما كثرت في حياة روح
خالدة بل ما قيمتها في بحر الزمن , في كون هائل سما على الزمان و المكان .
فالتجارب اللازمة لإدراك المعرفة و بلوغ الصفاء , لا يمكن أن تتم في زمان
محدود أو مكان محدود بل بأعمال لا تتسع لها حياة واحدة و لا مكان واحد على
الأرض .
كم مرة تعود الروح إلى التقمص ؟ و كم هو الفاصل بين التقمص و الأخر ؟
لسنا ندري إذا كانت كلمة كثيراً تجيب عن هذا السؤال .
فمصير الإنسان مرهون بأعماله و بمدى اكتسابه و تقدمه في اختباراته .
أما الفاصل الزمني بين التقمص و الأخر فنجيب بأن المكان و الزمان هما من
المفاهيم الأرضية و ليس في عالم الروح مكان و لا زمان .
هل تختار الروح تقمصها أو تساق قسراً إليه ؟
يقول العلماء الروحيين أنها مختارة .
فلقد وهب الله للإنسان العقل و أعطاه حرية التصرف في حيّز قانون كوني عام
فله أن يسير في هديه و بحسب أحكامه , فتحسن حاله , و يطمئن أمره , و له أن
يعصي و يخالف فيلاقي سوء ذلك إلى أن يستقيم و ينتظم في حيّز القانون العام
فتتحسن حاله و الله غفور رحيم . فالروح تحتاج إلى التقمص لتخلص من الجهالة
التي هي فيها , و من الشرور التي تعتريها , فإذا بادرت و استفادت من
تقمصاتها خففت آلامها و قرّبت المسافة في رحلتها و إذا لم تبادر أو لم تستفد
من تقمصاتها , استمرت فيها إلى أن تفعل أو يدركها اليوم الموعود .
أما إذا كانت الروح بدائية تعمه في جهل مطبق فلا تدرك من أمرها رشد فالله
العزيز الرحيم يقيض لها روحاً راقية تأخذ بيدها و ترشدها فتمضي بها إلى
التقمص الذي يناسبها . فالروح إذاً مختارة إلا أن هناك تقمصات تطوعية من لدن
أرواح سامية تحمل إلى الناس الرسائل الإلهية و الهدى و الرشاد .
بعد الموت عندما تعي الروح ذاتها و ترى ضرورة تقمصها على الأرض مرة أخرى و
يسمح لها بذلك فإنها إذا كانت على درجة من التقدم تختار المحن و التجارب
التي يجب أن تتقمص لمعاناتها و التغلب عليها .
الأرض للأرواح المتخلفة مكان للتكفير فيه عذاب و آلام و للأرواح المتقدمة
مكان للاختبار فيه جهد و كد و دموع , فالمجيء إلى الأرض ليس على الروح
بالأمر السهل الممكن في كل حين .
فمن الحكمة العمل على فهم التقمص فهماً عقلياً فننتهز فرصة الوجود على الأرض
لإصلاح الأخطاء التي ارتكبت فلا يتكرر التقمص ثانية لإصلاحها فيستغفر
الإنسان من آذاه و يحسن إليه و يحب من كرهه و يتواضع لمن حقّره و يتقرب منه
و يستجمع الصفات الفاضلة فيتحلى بها بعيداً عن الكبرياء و الأنانية و الكذب
و الغضب و الخوف .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق