الملكة بلقيس
الحمد لله.. والصلاة والسلام على رسول الله خير خلق الله وأحبهم إلى عباد
الله.. وأصحابه الذين حباه، ومن سار على نهجه وهداه. وسلم تسليماً كثيرا،
أما بعد فإن هذا البحث يتناول جوانب من حياة بلقيس
ملكة سبأ، التي كانت تعد سيدة نساء
عصرها، وحكيمة حكماء زمانها.
وتستمد قصة الملكة بلقيس أهميتها من
ذكر قصتها في الكتاب الحكيم مع النبي سليمان – عليه السلام - في سورة
النمل، مما أكسبها شهرة لم تكن للكثير من الملوك من قبلها أو من بعدها،
وضمنت بأن يبقى ذكرها خالداً عبر العصور، وعلى مر الدهور؛ وذلك لأن القرآن
باقٍ وخالدٌ إلى آخر الزمان كما قال الحق – جل وعلا *-*:*" إنا نحن* *نزلنا
الذكر و إنا له لحافظون".*
وقد قُسّم هذا البحث إلى أقسام ثلاثة:
الأول*- نسب بلقيس و حكمها:* ويتناول
هذا القسم نبذة عن حياة الملكة بلقيس
وعن حكمها لمملكة سبأ. والمعلومات في هذا الجزء من البحث وردت في المصادر
ملخصة ومتشابهة إلى حدٍ ما.
والثاني*- قصة بلقيس في القرآن:*
ويتناول هذا القسم قصة الملكة بلقيس
مع النبي سليمان – عليه السلام - في سورة النمل.
والثالث*- قراءةٌ في شخصية الملكة بلقيس:* وهذا القسم ينظر عن كثب في شخصية
الملكة بلقيس بعيداً عن التلفيق و
التنميق، أو الافتراء والتزويق.
وفي النهاية فإن هذا البحث لا يعد سوى قطرةٍ في بحرٍ غير مسبور الأغوار،
ورحلة ا لمسافر متعب من كثرة الأسفار، وزهرة في بستان مليء بالأزهار .هذا
والله أعلم بالسرائر.
_نسبهــــا:_
تنسب الملكة بلقيس إلى الهدهاد بن
شرحبيل من بني يعفر _[1]_
و هناك اختلاف كبير
بين المراجع التاريخية في تحديد اسم ونسب هذه الملكة الحِمْيَرية اليمانية،
كما أنه لا يوجد تأريخ لسنة ولادتها ووفاتها.
*_حُكمهــــــــــا:_*
كانت بلقيس سليلة حسبٍ و نسب، فأبوها
كان ملكاً، و قد ورثت الملك بولاية منه؛ لأنه على ما يبدو لم يرزق بأبناء
بنين. لكن أشراف وعلية قومها استنكروا توليها العرش وقابلوا هذا الأمر
بالازدراء و الاستياء، فكيف تتولى زمام الأمور في مملكة مترامية الأطراف
مثل مملكتهم امرأة_[2]_
>، أليس منهم رجلٌ رشيد؟ و
كان لهذا التشتت بين قوم بلقيس أصداء
خارج حدود مملكتها، فقد أثار الطمع في قلوب الطامحين الاستيلاء على مملكة
سبأ، ومنهم الملك "عمرو بن أبرهة" الملقب بذي الأذعار. فحشر ذو الأذعار
جنده و توجه ناحية مملكة سبأ للاستيلاء عليها و على ملكتها بلقيس، إلا أن
بلقيس علمت بما في نفس ذي الأذعار
فخشيت على نفسها، واستخفت في ثياب أعرابي ولاذت بالفرار. و عادت بلقيس
بعد أن عم الفساد أرجاء مملكتها
فقررت التخلص من ذي الأذعار، فدخلت عليه ذات يوم في قصره و ظلت تسقيه الخمر
وهو ظانٌ أنها تسامره وعندما بلغ الخمر منه مبلغه، استلت سكيناً و ذبحته
بها_[3]_ إلا أن
رواياتٍ أخرى تشير إلى أن بلقيس أرسلت
إلى ذي الأذعار وطلبت منه أن يتزوجها بغية الانتقام منه، وعندما دخلت عليه
فعلت فعلتها التي في الرواية الأولى_[4]_
وهذه الحادثة هي دليلٌ
جليّ وواضح على رباطة جأشها وقوة نفسها، وفطنة عقلها وحسن تدبيرها للأمور،
وخلصت بذلك أهل سبأ من شر ذي الأذعار وفساده.
وازدهر زمن حكم بلقيس مملكة سبأ أيمّا
ازدهار، واستقرت البلاد أيمّا استقرار، وتمتع أهل اليمن بالرخاء و الحضارة
والعمران والمدنية. كما حاربت بلقيس
الأعداء ووطدت أركان ملكها بالعدل وساست قومها بالحكمة. ومما أذاع صيتها و
حببها إلى الناس قيامها بترميم سد مأرب الذي كان قد نال منه الزمن وأهرم
بنيانه وأضعف أوصاله_[5]_
وبلقيس هي أول ملكة
اتخذت من سبأ مقراً لحكمها.
*_قصة بلقيس في القرآن_*
ورد ذكر الملكة بلقيس في القرآن
الكريم، فهي صاحبة الصرح المُمَرد من قوارير وذات القصة المشهورة مع النبي
سليمان بن داود - عليه السلام - في سورة النمل.
وقد كان قوم بلقيس يعبدون الأجرام
السماوية والشمس على وجه الخصوص، و كانوا يتقربون إليها بالقرابين، و
يسجدون لها من دون الله، و هذا ما لفت انتباه الهدهد الذي كان قد بعثه
سليمان - عليه السلام- ليبحث عن موردٍ للماء. و بعد الوعيد الذي كان قد
توعده سليمان إياه لتأخره عليه بأن يعذبه إن لم يأت بعذرٍ مقبول عاد الهدهد
و عذره معه *“أحطت بما لم تحط به و جئتك من سبأ بنبأ يقين”*_[6]_
، فقد وجد الهدهد أن أهل
سبأ على الرغم مما آتاهم الله من النعم إلا أنهم*” يسجدون للشمس من دون
الله “*_[7]_
فما كان من سليمان –عليه السلام- المعروف بكمال عقله وسعة حكمته إلا أن
يتحرّى صدق كلام الهدهد، فقال: *" سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين"*_[8]_
وأرسل إلى بلقيس
ملكة سبأ بكتابٍ يتضمن دعوته لهم إلى
طاعة الله ورسوله والإنابة والإذعان، وأن يأتوه مسلمين خاضعين لحكمه
وسلطانه، ونصه*"إنه من سليمان وإنه بسم الله**الرحمن الرحيم* ألا تعلوا علي
وأتوني مسلمين" *_[9]_
كانت بلقيس حينها جالسة على سرير
مملكتها المزخرف بأنواع من الجواهر واللآلئ والذهب مما يسلب الألباب ويذهب
بالمنطق والأسباب_[10]_
ولما عُرف عن بلقيس
من رجاحة وركازة العقل فإنها جمعت
وزراءها وعلية قومها، و شاورتهم في أمر هذا الكتاب. في ذلك الوقت كانت
مملكة سبأ تشهد من القوة ما يجعل الممالك الأخرى تخشاها، و تحسب لها ألف
حساب. فكان رأي وزرائها *“ نحن أولوا قوةٍ و أولوا* *بأس شديدٍ “*_[11]_
في إشارةٍ منهم إلى
اللجوء للحرب والقوة. إلا أن بلقيس
صاحبة العلم والحكمة والبصيرة النافذة ارتأت رأياً مخالفاً لرأيهم، فهي تعلم
بخبرتها وتجاربها في الحياة أن *“ الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا
أعزة أهلها أذلة وكذلك* *يفعلون”*_[12]_
وبصرت بما لم يبصروا
ورأت أن ترسل إلى سليمان بهديةٍ مع علية قومها وقلائهم، عله يلين أو يغير
رأيه، منتظرةٌ بما يرجع المرسلون. ولكن سليمان –عليه السلام- رد عليهم برد
قوي منكر صنيعهم ومتوعد إياهم بالوعيد الشديد قائلاً: *“أتمدونن بمال فما
آتاني الله خير مما آتكم، بل أنتم بهديتكم تفرحون”*_[13]_
عندها أيقنت بلقيس بقوة سليمان وعظمة
سلطانه، وأنه لا ريب نبي من عند الله –عز وجل-، فجمعت حرسها وجنودها واتجهت
إلى الشام حيث سليمان –عليه السلام-.
وكان عرش بلقيس وهي في طريقها إلى
سليمان –عليه السلام- مستقراً عنده، فقد أمر جنوده بأن يجلبوا له عرشها،
فأتاه به رجلٌ عنده علم الكتاب قبل أن يرتد إليه طرفه. ومن ثم غّير لها معالم
عرشها، ليعلم أهي بالذكاء و الفطنة بما يليق بمقامها و ملكها_[14]_
ومشت بلقيس على الصرح الممرد من
قوارير والذي كان ممتداً على عرشها، إلا أنها حسبته لجةً فكشفت عن ساقيها
وكانت مخطئة بذلك عندها عرفت أنها وقومها كانوا ظالمين لأنفسهم بعبادتهم
لغير الله –تعالى- وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين.
وتقول المراجع التاريخية أن سليمان –عليه السلام- تزوج من بلقيس، وأنه كان
يزورها في سبأ بين الحين والآخر. وأقامت معه سبع سنين وأشهراً، و توفيت
فدفنها في تدمر_[15]_
وتعلل المراجع سبب
وفاة بلقيس أنها بسبب وفاة ابنها
رَحْـبَم بن سليمان_[16]_
وقد ظهر تابوت بلقيس في عصر الخليفة
الأموي الوليد بن عبد الملك و عليه كتابات تشير إلى أنها ماتت لإحدى وعشرين
سنة خلت من حكم سليمان. وفتح التابوت فإذا هي غضّة لم يتغير جسمها، فرفع
الأمر إلى الخليفة فأمر بترك التابوت مكانه وبنى عليه الصخر_[17]_
*_قراءةٌ في شخصية الملكة بلقيس_*
*· **_ذكر بلقيس في القرآن الكريم_*
إن بلقيس لم تكن امرأة عادية، أو
ملكة حكمت في زمن من الأزمان و مر ذكرها مرور الكرام شأن كثير من الملوك و
الأمراء. و دليل ذلك ورود ذكرها في القرآن. فقد خلد القرآن الكريم بلقيس، و
تعرض لها دون أن يمسّها بسوء ، و يكفيها شرفاً أن ورد ذكرها في كتابٍ منزلٍ من
لدن حكيم عليم، وهو كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، ولم و
لن يعتريه أي تحريف أو تبديل على مر الزمان، لأن رب العزة –جل و علا- تكفل
بحفظه وصونه *“إنا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون*"_[18]_
فذِكر بلقيس
في آخر الكتب السماوية و أعظمها و
أخلدها هو تقدير للمرأة في كل زمان و مكان، هذه المرأة التي استضعفتها
الشعوب والأجناس البشرية وحرمتها من حقوقها، وأنصفها الإسلام و كرمها أعظم
تكريم. و هذا في مجمله وتفصيله يصب في منبع واحد، ألا وهو أن الملكة بلقيس
كان لها شأنٌ عظيم جعل قصتها مع النبي
سليمان –عليه السلام- تذكر في القرآن الكريم .
*· **_رجاحة عقل بلقيس، و بليغ حكمتها، و حسن مشاورتها_*
إن الملكة بلقيس ما كان لها هذا
الشأن العظيم لولا اتصافها برجاحة العقل و سعة الحكمة و غزارة الفهم. فحسن
التفكير و حزم التدبير أسعفاها في كثيرٍ من المواقف الصعيبة والمحن الشديدة
التي تعرضت لها هي ومملكتها؛ و منها قصتها مع الملك ذي الأذعار الذي كان
يضمر الشر لها و لمملكتها، ولكن دهاءها وحنكتها خلصاها من براثن ذي الأذعار
و خلص قومها من فساده و طغيانه و جبروته.
كما أنها عرفت بحسن المشاورة إلى جانب البراعة في المناورة، فهي لم تكن
كبقية الملوك متسلطة في أحكامها، متزمتة لآرائها، لا تقبل النقاش أو
المجادلة، بل كانت كما أجرى الله على لسانها *“ قالت أيها الملأ أفتوني في
أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى* *تشهدون*}_[19]_
و ذلك على الرغم من
أنه كان بمقدورها أن تكتفي برأيها و هي الملكة العظيمة صاحبة الملك المهيب
. فهي ببصيرتها النيّرة كانت ترى أبعد من مصلحة الفرد، فهّمها كان فيما يحقق
مصلحة الجماعة.
*· **ذكاء بلقيس وفطنتها*
كانت بلقيس فطينة رزينة، و كانت
فطنتها نابعة من أساس كونها امرأة، فالمرأة خلقها الله –عز وجل- وجعلها
تتمتع بحاسة تمكنها من التبصر في نتائج الأمور وعواقبها. والشاهد على ذلك
أنه كان لبلقيس –كعادة الملوك- عدد كبير من الجواري اللاتي يقمن على
خدمتها، فإذا بلغن استدعتهن فرادى، فتحدث كل واحدة عن الرجال فإن رأت أن
لونها قد تغير فطنت إلى أن جاريتها راغبة في الزواج، فتُزوجها بلقيس
رجلاً من أشراف قومها وتكرم مثواها.
أما إذا لم تضطرب جاريتها ولم تتغير تعابير وجهها، فطنت بلقيس
إلى أنها عازفة عن الرجال، وراغبة في
البقاء عندها ولم تكن بلقيس لتقصر
معها. ومن أمارات فطنتها أيضا أنه لما ألقي عليها كتاب سليمان علمت من
ألفاظه أنه ليس ملكاً كسائر الملوك، وأنه لا بد وأن يكون رسول كريم وله شأنٌ
عظيم؛ لذلك خالفت وزراءها الرأي عندما أشاروا عليها باللجوء إلى القوة،
وارتأت بأن ترسل إلى سليمان بهدية، و كان المراد من وراء هذه الهدية ليس
فقط لتغري وتلهي سليمان – عليه السلام - بها، وإنما لتعرف أتغير الهدية
رأيه و تخدعه؟ و لتتفقد أحواله و تعرف عن سلطانه و ملكه و جنوده. ومن علامة
ذكائها أيضا أن سليمان – عليه السلام - عندما قال لها متسائلاً *“ أهكذا
عرشك؟ قالت: كأنه هو*"_[20]_
ولم تؤكد أنه هو
لعلمها أنها خلفت عرشها وراءها في سبأ ولم تعلم أن لأحد هذه القدرة العجيبة
على جلبه من مملكتها إلى الشام. كما أنها لم تنفِ أن يكون هو؛ لأنه يشبه
عرشها لولا التغيير والتنكير الذي كان فيه_[21]_
*_إسلام الملكة بلقيس مع سليمان_*
كثيرةٌ هي القصص المذكورة في القرآن عن أقوامٍ لم يؤمنوا برسل الله و ظلوا
على كفرهم على الرغم مما جاءهم من العلم . إلا أن بلقيس
وقومها آمنوا برسول الله سليمان
–عليه السلام- ولم يتمادوا في الكفر بعدما علموا أن رسالته هي الحق وأن ما
كانوا يعبدون من دون الله كان باطلاً. واعترفت بلقيس
بأنها كانت ظالمة لنفسها بعبادتها
لغير الله *“ قالت ربي إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين
“*_[22]_
**_الخاتمـــــــة :_**
وفي الختام فمهما أتقنا روعة التعبير و جودة التأليف، و مهما كُتب عن الملكة
بلقيس وأُلف عن سيرتها، فإن قصتها
ستكون كما وصفها القرآن لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب، وهذا البحث
شأنه شأن الإنسان الذي كتبه لا يخلو من الخطأ أو السهو أو النسيان؛ ولذلك
فإن صدورنا تتسع لجميل إطرائكم، ولاذع نقدكــــم فكل ابن آدم
خطــــــــــــــــــــاء.
والله – جل و علا – أعلم بالقصد من وراء هذه الصفحات التي ما هي إلا ذكرى
للبشر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الحمد لله.. والصلاة والسلام على رسول الله خير خلق الله وأحبهم إلى عباد
الله.. وأصحابه الذين حباه، ومن سار على نهجه وهداه. وسلم تسليماً كثيرا،
أما بعد فإن هذا البحث يتناول جوانب من حياة بلقيس
ملكة سبأ، التي كانت تعد سيدة نساء
عصرها، وحكيمة حكماء زمانها.
وتستمد قصة الملكة بلقيس أهميتها من
ذكر قصتها في الكتاب الحكيم مع النبي سليمان – عليه السلام - في سورة
النمل، مما أكسبها شهرة لم تكن للكثير من الملوك من قبلها أو من بعدها،
وضمنت بأن يبقى ذكرها خالداً عبر العصور، وعلى مر الدهور؛ وذلك لأن القرآن
باقٍ وخالدٌ إلى آخر الزمان كما قال الحق – جل وعلا *-*:*" إنا نحن* *نزلنا
الذكر و إنا له لحافظون".*
وقد قُسّم هذا البحث إلى أقسام ثلاثة:
الأول*- نسب بلقيس و حكمها:* ويتناول
هذا القسم نبذة عن حياة الملكة بلقيس
وعن حكمها لمملكة سبأ. والمعلومات في هذا الجزء من البحث وردت في المصادر
ملخصة ومتشابهة إلى حدٍ ما.
والثاني*- قصة بلقيس في القرآن:*
ويتناول هذا القسم قصة الملكة بلقيس
مع النبي سليمان – عليه السلام - في سورة النمل.
والثالث*- قراءةٌ في شخصية الملكة بلقيس:* وهذا القسم ينظر عن كثب في شخصية
الملكة بلقيس بعيداً عن التلفيق و
التنميق، أو الافتراء والتزويق.
وفي النهاية فإن هذا البحث لا يعد سوى قطرةٍ في بحرٍ غير مسبور الأغوار،
ورحلة ا لمسافر متعب من كثرة الأسفار، وزهرة في بستان مليء بالأزهار .هذا
والله أعلم بالسرائر.
_نسبهــــا:_
تنسب الملكة بلقيس إلى الهدهاد بن
شرحبيل من بني يعفر _[1]_
و هناك اختلاف كبير
بين المراجع التاريخية في تحديد اسم ونسب هذه الملكة الحِمْيَرية اليمانية،
كما أنه لا يوجد تأريخ لسنة ولادتها ووفاتها.
*_حُكمهــــــــــا:_*
كانت بلقيس سليلة حسبٍ و نسب، فأبوها
كان ملكاً، و قد ورثت الملك بولاية منه؛ لأنه على ما يبدو لم يرزق بأبناء
بنين. لكن أشراف وعلية قومها استنكروا توليها العرش وقابلوا هذا الأمر
بالازدراء و الاستياء، فكيف تتولى زمام الأمور في مملكة مترامية الأطراف
مثل مملكتهم امرأة_[2]_
>، أليس منهم رجلٌ رشيد؟ و
كان لهذا التشتت بين قوم بلقيس أصداء
خارج حدود مملكتها، فقد أثار الطمع في قلوب الطامحين الاستيلاء على مملكة
سبأ، ومنهم الملك "عمرو بن أبرهة" الملقب بذي الأذعار. فحشر ذو الأذعار
جنده و توجه ناحية مملكة سبأ للاستيلاء عليها و على ملكتها بلقيس، إلا أن
بلقيس علمت بما في نفس ذي الأذعار
فخشيت على نفسها، واستخفت في ثياب أعرابي ولاذت بالفرار. و عادت بلقيس
بعد أن عم الفساد أرجاء مملكتها
فقررت التخلص من ذي الأذعار، فدخلت عليه ذات يوم في قصره و ظلت تسقيه الخمر
وهو ظانٌ أنها تسامره وعندما بلغ الخمر منه مبلغه، استلت سكيناً و ذبحته
بها_[3]_ إلا أن
رواياتٍ أخرى تشير إلى أن بلقيس أرسلت
إلى ذي الأذعار وطلبت منه أن يتزوجها بغية الانتقام منه، وعندما دخلت عليه
فعلت فعلتها التي في الرواية الأولى_[4]_
وهذه الحادثة هي دليلٌ
جليّ وواضح على رباطة جأشها وقوة نفسها، وفطنة عقلها وحسن تدبيرها للأمور،
وخلصت بذلك أهل سبأ من شر ذي الأذعار وفساده.
وازدهر زمن حكم بلقيس مملكة سبأ أيمّا
ازدهار، واستقرت البلاد أيمّا استقرار، وتمتع أهل اليمن بالرخاء و الحضارة
والعمران والمدنية. كما حاربت بلقيس
الأعداء ووطدت أركان ملكها بالعدل وساست قومها بالحكمة. ومما أذاع صيتها و
حببها إلى الناس قيامها بترميم سد مأرب الذي كان قد نال منه الزمن وأهرم
بنيانه وأضعف أوصاله_[5]_
وبلقيس هي أول ملكة
اتخذت من سبأ مقراً لحكمها.
*_قصة بلقيس في القرآن_*
ورد ذكر الملكة بلقيس في القرآن
الكريم، فهي صاحبة الصرح المُمَرد من قوارير وذات القصة المشهورة مع النبي
سليمان بن داود - عليه السلام - في سورة النمل.
وقد كان قوم بلقيس يعبدون الأجرام
السماوية والشمس على وجه الخصوص، و كانوا يتقربون إليها بالقرابين، و
يسجدون لها من دون الله، و هذا ما لفت انتباه الهدهد الذي كان قد بعثه
سليمان - عليه السلام- ليبحث عن موردٍ للماء. و بعد الوعيد الذي كان قد
توعده سليمان إياه لتأخره عليه بأن يعذبه إن لم يأت بعذرٍ مقبول عاد الهدهد
و عذره معه *“أحطت بما لم تحط به و جئتك من سبأ بنبأ يقين”*_[6]_
، فقد وجد الهدهد أن أهل
سبأ على الرغم مما آتاهم الله من النعم إلا أنهم*” يسجدون للشمس من دون
الله “*_[7]_
فما كان من سليمان –عليه السلام- المعروف بكمال عقله وسعة حكمته إلا أن
يتحرّى صدق كلام الهدهد، فقال: *" سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين"*_[8]_
وأرسل إلى بلقيس
ملكة سبأ بكتابٍ يتضمن دعوته لهم إلى
طاعة الله ورسوله والإنابة والإذعان، وأن يأتوه مسلمين خاضعين لحكمه
وسلطانه، ونصه*"إنه من سليمان وإنه بسم الله**الرحمن الرحيم* ألا تعلوا علي
وأتوني مسلمين" *_[9]_
كانت بلقيس حينها جالسة على سرير
مملكتها المزخرف بأنواع من الجواهر واللآلئ والذهب مما يسلب الألباب ويذهب
بالمنطق والأسباب_[10]_
ولما عُرف عن بلقيس
من رجاحة وركازة العقل فإنها جمعت
وزراءها وعلية قومها، و شاورتهم في أمر هذا الكتاب. في ذلك الوقت كانت
مملكة سبأ تشهد من القوة ما يجعل الممالك الأخرى تخشاها، و تحسب لها ألف
حساب. فكان رأي وزرائها *“ نحن أولوا قوةٍ و أولوا* *بأس شديدٍ “*_[11]_
في إشارةٍ منهم إلى
اللجوء للحرب والقوة. إلا أن بلقيس
صاحبة العلم والحكمة والبصيرة النافذة ارتأت رأياً مخالفاً لرأيهم، فهي تعلم
بخبرتها وتجاربها في الحياة أن *“ الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا
أعزة أهلها أذلة وكذلك* *يفعلون”*_[12]_
وبصرت بما لم يبصروا
ورأت أن ترسل إلى سليمان بهديةٍ مع علية قومها وقلائهم، عله يلين أو يغير
رأيه، منتظرةٌ بما يرجع المرسلون. ولكن سليمان –عليه السلام- رد عليهم برد
قوي منكر صنيعهم ومتوعد إياهم بالوعيد الشديد قائلاً: *“أتمدونن بمال فما
آتاني الله خير مما آتكم، بل أنتم بهديتكم تفرحون”*_[13]_
عندها أيقنت بلقيس بقوة سليمان وعظمة
سلطانه، وأنه لا ريب نبي من عند الله –عز وجل-، فجمعت حرسها وجنودها واتجهت
إلى الشام حيث سليمان –عليه السلام-.
وكان عرش بلقيس وهي في طريقها إلى
سليمان –عليه السلام- مستقراً عنده، فقد أمر جنوده بأن يجلبوا له عرشها،
فأتاه به رجلٌ عنده علم الكتاب قبل أن يرتد إليه طرفه. ومن ثم غّير لها معالم
عرشها، ليعلم أهي بالذكاء و الفطنة بما يليق بمقامها و ملكها_[14]_
ومشت بلقيس على الصرح الممرد من
قوارير والذي كان ممتداً على عرشها، إلا أنها حسبته لجةً فكشفت عن ساقيها
وكانت مخطئة بذلك عندها عرفت أنها وقومها كانوا ظالمين لأنفسهم بعبادتهم
لغير الله –تعالى- وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين.
وتقول المراجع التاريخية أن سليمان –عليه السلام- تزوج من بلقيس، وأنه كان
يزورها في سبأ بين الحين والآخر. وأقامت معه سبع سنين وأشهراً، و توفيت
فدفنها في تدمر_[15]_
وتعلل المراجع سبب
وفاة بلقيس أنها بسبب وفاة ابنها
رَحْـبَم بن سليمان_[16]_
وقد ظهر تابوت بلقيس في عصر الخليفة
الأموي الوليد بن عبد الملك و عليه كتابات تشير إلى أنها ماتت لإحدى وعشرين
سنة خلت من حكم سليمان. وفتح التابوت فإذا هي غضّة لم يتغير جسمها، فرفع
الأمر إلى الخليفة فأمر بترك التابوت مكانه وبنى عليه الصخر_[17]_
*_قراءةٌ في شخصية الملكة بلقيس_*
*· **_ذكر بلقيس في القرآن الكريم_*
إن بلقيس لم تكن امرأة عادية، أو
ملكة حكمت في زمن من الأزمان و مر ذكرها مرور الكرام شأن كثير من الملوك و
الأمراء. و دليل ذلك ورود ذكرها في القرآن. فقد خلد القرآن الكريم بلقيس، و
تعرض لها دون أن يمسّها بسوء ، و يكفيها شرفاً أن ورد ذكرها في كتابٍ منزلٍ من
لدن حكيم عليم، وهو كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، ولم و
لن يعتريه أي تحريف أو تبديل على مر الزمان، لأن رب العزة –جل و علا- تكفل
بحفظه وصونه *“إنا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون*"_[18]_
فذِكر بلقيس
في آخر الكتب السماوية و أعظمها و
أخلدها هو تقدير للمرأة في كل زمان و مكان، هذه المرأة التي استضعفتها
الشعوب والأجناس البشرية وحرمتها من حقوقها، وأنصفها الإسلام و كرمها أعظم
تكريم. و هذا في مجمله وتفصيله يصب في منبع واحد، ألا وهو أن الملكة بلقيس
كان لها شأنٌ عظيم جعل قصتها مع النبي
سليمان –عليه السلام- تذكر في القرآن الكريم .
*· **_رجاحة عقل بلقيس، و بليغ حكمتها، و حسن مشاورتها_*
إن الملكة بلقيس ما كان لها هذا
الشأن العظيم لولا اتصافها برجاحة العقل و سعة الحكمة و غزارة الفهم. فحسن
التفكير و حزم التدبير أسعفاها في كثيرٍ من المواقف الصعيبة والمحن الشديدة
التي تعرضت لها هي ومملكتها؛ و منها قصتها مع الملك ذي الأذعار الذي كان
يضمر الشر لها و لمملكتها، ولكن دهاءها وحنكتها خلصاها من براثن ذي الأذعار
و خلص قومها من فساده و طغيانه و جبروته.
كما أنها عرفت بحسن المشاورة إلى جانب البراعة في المناورة، فهي لم تكن
كبقية الملوك متسلطة في أحكامها، متزمتة لآرائها، لا تقبل النقاش أو
المجادلة، بل كانت كما أجرى الله على لسانها *“ قالت أيها الملأ أفتوني في
أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى* *تشهدون*}_[19]_
و ذلك على الرغم من
أنه كان بمقدورها أن تكتفي برأيها و هي الملكة العظيمة صاحبة الملك المهيب
. فهي ببصيرتها النيّرة كانت ترى أبعد من مصلحة الفرد، فهّمها كان فيما يحقق
مصلحة الجماعة.
*· **ذكاء بلقيس وفطنتها*
كانت بلقيس فطينة رزينة، و كانت
فطنتها نابعة من أساس كونها امرأة، فالمرأة خلقها الله –عز وجل- وجعلها
تتمتع بحاسة تمكنها من التبصر في نتائج الأمور وعواقبها. والشاهد على ذلك
أنه كان لبلقيس –كعادة الملوك- عدد كبير من الجواري اللاتي يقمن على
خدمتها، فإذا بلغن استدعتهن فرادى، فتحدث كل واحدة عن الرجال فإن رأت أن
لونها قد تغير فطنت إلى أن جاريتها راغبة في الزواج، فتُزوجها بلقيس
رجلاً من أشراف قومها وتكرم مثواها.
أما إذا لم تضطرب جاريتها ولم تتغير تعابير وجهها، فطنت بلقيس
إلى أنها عازفة عن الرجال، وراغبة في
البقاء عندها ولم تكن بلقيس لتقصر
معها. ومن أمارات فطنتها أيضا أنه لما ألقي عليها كتاب سليمان علمت من
ألفاظه أنه ليس ملكاً كسائر الملوك، وأنه لا بد وأن يكون رسول كريم وله شأنٌ
عظيم؛ لذلك خالفت وزراءها الرأي عندما أشاروا عليها باللجوء إلى القوة،
وارتأت بأن ترسل إلى سليمان بهدية، و كان المراد من وراء هذه الهدية ليس
فقط لتغري وتلهي سليمان – عليه السلام - بها، وإنما لتعرف أتغير الهدية
رأيه و تخدعه؟ و لتتفقد أحواله و تعرف عن سلطانه و ملكه و جنوده. ومن علامة
ذكائها أيضا أن سليمان – عليه السلام - عندما قال لها متسائلاً *“ أهكذا
عرشك؟ قالت: كأنه هو*"_[20]_
ولم تؤكد أنه هو
لعلمها أنها خلفت عرشها وراءها في سبأ ولم تعلم أن لأحد هذه القدرة العجيبة
على جلبه من مملكتها إلى الشام. كما أنها لم تنفِ أن يكون هو؛ لأنه يشبه
عرشها لولا التغيير والتنكير الذي كان فيه_[21]_
*_إسلام الملكة بلقيس مع سليمان_*
كثيرةٌ هي القصص المذكورة في القرآن عن أقوامٍ لم يؤمنوا برسل الله و ظلوا
على كفرهم على الرغم مما جاءهم من العلم . إلا أن بلقيس
وقومها آمنوا برسول الله سليمان
–عليه السلام- ولم يتمادوا في الكفر بعدما علموا أن رسالته هي الحق وأن ما
كانوا يعبدون من دون الله كان باطلاً. واعترفت بلقيس
بأنها كانت ظالمة لنفسها بعبادتها
لغير الله *“ قالت ربي إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين
“*_[22]_
**_الخاتمـــــــة :_**
وفي الختام فمهما أتقنا روعة التعبير و جودة التأليف، و مهما كُتب عن الملكة
بلقيس وأُلف عن سيرتها، فإن قصتها
ستكون كما وصفها القرآن لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب، وهذا البحث
شأنه شأن الإنسان الذي كتبه لا يخلو من الخطأ أو السهو أو النسيان؛ ولذلك
فإن صدورنا تتسع لجميل إطرائكم، ولاذع نقدكــــم فكل ابن آدم
خطــــــــــــــــــــاء.
والله – جل و علا – أعلم بالقصد من وراء هذه الصفحات التي ما هي إلا ذكرى
للبشر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق