الخميس، 4 ديسمبر 2014

طاغور الهنود

                      
*_رابندرانات طاغور_ *
*ولد طاغور في عام 1861. وفي الرابعة عشرة من عمره توفيت والدته. واكتشف
طاغور في هذا العمر معنى الحب الإنساني عند إحدى قريباته. وفي أحد أيام
عام1883، عرف طاغور في رؤيا أن الحب الإنساني واحد مع حب الطبيعة وحب الله؛
يقول في ذكرياتـه: كانت الشمس تشرق بتؤدة فوق أوراق الأشجار […]؛ وفجأة،
بدا وكأن نقاباً انزاح من أمام ناظري. لقد أبصرت العالم كله مغموراً بمجد
يفوق الوصف؛ أمواج من الفرح والجمال تومض وتتصادم من كل صوب […] لم يكن ثمة
شيء أو أحد لم أكن أحبه في تلك اللحظة […] وفي كلية رؤياي لاح لي أنني كنت
شاهداً على حركات جسم الإنسانية بأسرها، شاعراً بموسيقى وبإيقاع رقصة سرية**.

في العام**التالي انتحرت شقيقته، مما سبب له صدمة هائلة. وقاده ذلك إلى
محبة الإنسانية جمعاء،**بدلاً من التمسك بالحب الفردي والخاص. وتتالت
الأحداث المؤلمة في حياته، لكنها كانت تعضد باستمرار روح اللاتعلق عنده.
فبين عامي 1902 و 1918، انتزع منه الموت زوجه وثلاثة من أطفاله ووالده. لقد
أحس إنه مثل زهرة انتُزِعت بتلاتها واحدة تلو الأخرى، وأصبحت كالثمرة التي
سيأتي الموت ليقطفها في كمال نضجها كتقدمة لرب الحياة. ومع ذلك، فقد جعل
منه صفاؤه الواسع وضبطه لنفسه وخضوعه أمام الله الذي ورثه من والده، إنساناً
نادر العظمة. لم يكن الموت سراً بالنسبة له، ولم يكن ليستدعي الألم. وهكذا،
كانت إحدى أغنياته التي استلهمها غاندي منه تقول: أنا هذا البخور الذي لا
يضوع عطره ما لم يُحرق، أنا هذا القنديل الذي لا يشع ضوؤه ما لم يُشعَل**.
كان طاغور يتمتع بموهبة تحويل الألم إلى فرح. وكان يحب الحياة إلى حد**أنه
أراد ألا يضيع قداستها بالوقوف عند ما تسببه حركتها من شعور بالألم. كانت
مهمته**مزدوجة: اكتشاف ربه، إله الجمال، في الطبيعة والجسد والفكر والقول
والفعل، وتحويل الحياة وتعديلها لتصبح جميلة بكليتها. كتب في الـسادهانا
("تحقيق الحياة**"):
أين يمكنني أن ألقاك، إن**لم يكن في بيتي الذي أصبح بيتك؟ وأين يمكنني
الانضمام إليك، إن لم يكن في عملي الذي**صار عملك؟ إذا غادرت بيتي لن أبلغ
بيتك… إذا قعدت عن عملي محال عليّ أن أنضم إليك في عملك؛ إذ إنك تقيم فيّ
وأنا فيك**.

لقد انعكست روحه هذه على مركز التربية شانتي نيكيتان (أو "مرفأ**السلام")
الذي أسسه عام 1901، فأصبح بؤرة ديناميّة خلاقة لهذا الجمال، حيث تفتح
فيه**الشعر والرسم والموسيقى والرقص والمسرح والعلوم. لقد حقق طاغور من
خلال هذه المدرسة الرؤيا التي عبر عنها في مؤلفه الوحدة المبدعة، حيث تعطي
الطبيعة للإنسان معنى التوق إلى اللانهائي. فالإنسان في الطبيعة إنسان حرّ،
"ليس في اعتبار الطبيعة كمصدر لتأمين معيشته، بل كينبوع لتحقيق انجذابات
روحه إلى ما هو أبعد منه هو نفسه**."

لقد فجّرت المعاني السامية**للمحبة التي عبر عنها في جيتنجالي أملاً جديداً
للإنسانية وهي غارقة في الحرب**العالمية الأولى. وعندما كان طاغور يرتقب
الموت مريضاً ببصيرة صافية، وكانت الحرب العالمية الثانية قد اندلعت، أعلن
في يوم مولده الثمانين: عندما أجول ببصري من حولي، أقع على أطلال مدنية
مغرورة تنهار وتتبعثر في أكوام هائلة من التفاهة والعبث. ومع ذلك فلن أذعن
للخطيئة المميتة في فقدان الإيمان بالإنسان؛ بل إنني بالحري سأثبِّت نظري نحو
مطلع فصل جديد من فصول تاريخه، عندما تنتهي الكارثة ويعود المناخ رائقاً
ومتناغماً مع روح الخدمة والتضحية […] سيأتي يوم يعاود فيه الإنسان، ذلك
الكائن الأبيّ، خطّ مسيرته الظافرة على الرغم من كافة العراقيل، ليعثر على
ميراثه الإنساني الضائع**.

كانت فلسفة طاغور**فلسفة الأمل والثقة بالإنسان، المبنية على تفتح روحه،
وتطور وعيه، وتحقيق طاقاته**. **ولهذا فقد ارتبطت المثالية الإنسانية عند
طاغور بالعمل والتطبيق، وكان هو نفسه مثالاً لكل مبدأ أعلنه أو فكرة نادى
بها**.
*
*طاغور والمثالية الإنسانية*


*قال عنه غاندي إنه "منارة**الهند". والحق إنه صار منارة للشرق كله، ونداء
الإنسانية والمحبة والجمال. كان**مبدؤه البساطة والعمل؛ وهكذا فقد أضاء
شمعة بدلاً من لعن الظلام، فسطعت وأضاءت في النفوس التوّاقة إلى الحق. لذا،
كان ُيعدّ في حياته "أكثر الشعراء صوفية وأكثر الصوفيين شاعرية"؛ وفي ذلك
دلالة على ما بلغته نفسه من نقاء وصدق وما وصلت إليه **روحه من ارتقاء وحرية.

إنه طاغور الذي سحر الغرب بكتاباته، ثم انتشرت ترجماته في العالم كله، حتى
استحق جائزة نوبل للأدب عام 1913. لقد أبدع طاغور على مدى نحو ستين عاماً،
فكان معلماً روحياً بالدرجة الأولى، ومجدداً أدبياً واجتماعياً، وفيلسوفاً
وروائياً ومسرحياً ورساماً، وقبل ذلك كله شاعراً، كان ينهل من إرث روحي عريق في
البنغال، ومن تجربة داخلية عميقة كانت **ينبوعاً لا ينضب للإلهام والإبداع.

كان والده من كبار روحانيي البنغال، وكان يعيش في عزلة مستمرة لا يتركها
إلا لضرورة الاستمرار وتجدد الحياة. كذا فقد نشأ رابندرانات طاغور في جو من
الحساسية والشفافية، وكشفت له زيارتان قام بهما لوالده في الهملايا عن آفاق
جديدة وعن تجربة صوفية كان لها أثر كبير في حياته، ويمكن اختصارها
بعبارتين: محبة الطبيعة، ومحبة الله. *
*معرفة النفس*



*يتأسس فعل المعرفة على وحدة الأشياء والكائنات. والمعرفة في الجوهر**هي
معرفة النفس. فما نعرفه عن العالم بمعزل عنا لا يعدو كونه جملة من
المعلومات**النسبية. إن تفتح وعي الإنسان هو تفتح عالمه الداخلي. "لو كان
تفتح الوعي يتم خارج النفس لكان يجب أن يتم بلانهاية. ذلك أن الوقائع
متعددة ولانهائية، أما الحقيقة فواحدة." تقول الأوبانيشاد: "اعرف الروح
الذي هو روحك." ويفسر طاغور ذلك بقوله: "**حقق المبدأ الوحيد والعظيم
للوحدة القائم في جميع الناس."

تُعمي رغباتنا الأنانية رؤيتنا الحقيقية للروح. والحق أن النفس لا تجد
معناها إلا في التواحد مع الآخر؛ وفي ذلك فرحها أن تجد ذاتها في الآخرين.
ومع ذلك فالمحبة أشمل وأوسع من علاقة الفهم الجزئية هذه. فبالمحبة تجتاز
الروح حدودها إلى اللانهائي ويختفي معنى الاختلاف **تماماً.

"كذا، فإن مفتاح الوعي الكوني، وعي الله، كامن في وعي النفس. ومعرفة النفس
بعيداً عن الأنا الضيقة هي الخطوة الأولى باتجاه الانعتاق الأسمى." إن جوهر
هذه المعرفة هو المحبة، محبة العالم بما هو واحد معنا، ومحبة الذات بما نحن
روح وقبس من اللانهاية. وهذا يعني أننا نستطيع الارتفاع إلى هذه الروح فوق
كل رغبة وحقد وخوف، حتى نعلم أن فقدان **الأشياء المادية وحتى الموت لا
يحرماننا من حقيقة الروح.

إن طاغور لا يطلب منا التخلي عن العالم والانعزال عنه، بل الوصول إلى معناه
الأعمق بالتخلص من الأنانية. فطاغور لا يؤمن بالتبشير، ذلك أن المعرفة
لاتُحدّ بعقيدة أو طريقة أو منهج. إنما"الحقيقة بلاد لا طرق فيها"، كما يقول
كريشنامورتي. إن المعرفة هي العمل على الذات، وتنقيتها المستمرة من الشوائب
المترسبة في النفس. "وعندما نجد محور روحنا بالقوة التي توحّد العناصر
المتنازعة كلها، تتحول خواطرنا المفكَّكة كلها إلى حكمة، وتجد خلجات قلوبنا
كمالها في المحبة، وتنجلي غايات الأبدية في أدق تفاصيل حياتنا. وهكذا فإننا
لا نرى الواحد العلوي فينا بالمران أو بالتعليم، بل بالبصيرة المباشرة.
يساعدنا الحكماء والمعلمون على فهم أنفسنا وإدراك حقيقة العالم، لكننا نحن
من يجب أن يقوم بالعمل العظيم والدؤوب في تنقية نفوسنا حتى يشع النور فينا.
إن المعرفة لا تُحصَّل تحصيلاً، ولا تُحقَّق جزءاً فجزءاً، ولو استمر الأمر إلى ما
لانهاية. ولهذا يقول طاغور إن أعمق صلاة تصعَّدت من قلب الإنسان كانت: " أيها
الواحد المتجلي بذاته، تجلَّ فيّ." إن الخطيئة في نظر طاغور هي تخلي المرء عن
كلِّه ليربح جزءاً. وذلك ما يحجب عنا صفاء المعرفة. وعندما تلتقي نهائيّتنا مع
اللانهائي تزول الخطيئة، **ويتجلى "الواحد المتجلي بذاته" في روحنا.

يقودنا ذلك إلى تناول مسألة الشر في منظور المثالية الإنسانية**.

*
*المثالية ومسألة الشر *
*ليس ثمة شرّ بذاته، فالشر هو جهل ونقص في المعرفة والوعي. إن تعلقنا بالجزء
دون الكل يحجب عن بصيرتنا رؤيا وحدة العالم في قلب تعدده وتنوعه وثنائيته.
"نحن نرى الشرّ متأصلاً لأننا نعطيه شكلاً ثابتاً، في حين أنه متحرك مع حركة
الطبيعة. فحركة الموت والحياة حركة واحدة لا يكون فيها الموت حداً نهائياً."
وضمن هذه الحركة الكلية، يتمثل الخير في تنبهنا للتوق العميق فينا ولمعنى
وجودنا واتجاهه نحو الوحدة والحقيقة، ويكون الشرّ بالتالي عدم الاهتمام بهذا
التوق **وإسكاته والانصراف عنه.

إن حرية الإنسان ليست في التحرر من الألم، بل في احتماله وتحويله إلى إيجاب
وإلى فرح. ولا يتحقق لنا ذلك "إلا عندما ندرك أن نفوسنا الفردية ليست
الحقيقة الأسمى في وجودنا، وأن فينا الإنسان الكوني الخالد الذي لا يخشى
الموت والألم، والذي يرى في الألم الوجه الثاني للفرح." هكذا نتعلم أن نحول
شعورنا السلبي بالألم إلى ثراء من **القوة والحكمة والحب.

إن الخلاص الحقيقي هو الخلاص من الجهل أفِديا. فالجهل هو الذي يجعلنا مقيدين
بأنفسنا، فنظن أننا غاية أنفسنا ووجودنا. علينا ألا نستكين للشعور بالنقص
أو للأنانية، فنستغل أي شعور بالألم لتعظيم وتمجيد نفوسنا. فنحن بذلك إنما
نطبق الشر. إنما الألم هو "العذراء الطاهرة المكرَّسة لخدمة الكمال الخالد،
وحين تأخذ مكانها إلى جانب **مذبح اللانهاية تنزع نقابها الأسود وتكشف
وجهها لرائيها كأعظم تجلّ للفرح العلوي."

يشبّه طاغور حقيقة الألم بالمصباح الذي يحوي الزيت ويحفظه في وعائه المقفل
كيلا يضيع. لكن غايته الحقيقية ليست في فصل الزيت وعزله عن الأشياء من حوله
وإلا فسيكون مثالاً للتعاسة وللشرّ. ويجد الزيت معناه حين يضيء فيحقق صلته
بالأشياء ويصبح حراً بما هو داخل وعاء المصباح. إن نفسنا تشبه هذا المصباح؛
فهي تبقى مظلمة مادامت تدخر ممتلكاتها وتقبع في عزلة أنانيتها. لكنها، إذ
تجد نورها، ترفعه وتمدّه لأنه معناها وقد وجدته. كذا فإن الطريق الذي أشار
إليه البوذا ليس الزهد في النفس، بل رحابة المحبة والتضحية. فالمحبة هي
طريق الاستنارة لأنها الاستنارة. ولهذا فإن من يسلك هذا الطريق لا يسأل
لماذا، لأن المحبّ لا يسأل لماذا أحبّ! "لأن المحبة مكتفية بالمحبة…". "إنما
بالمحبة الكاملة نكتشف حرية أنفسنا. فوحده ما يتم بمحبة يتم بحرية، مهما
كان **مؤلماً."

ثمة رغبات فينا نحتاج إلى إشباعها، لكن ثمة أيضاً فينا قانون عضوي كلي يسعى
دائماً للحفاظ على صحتنا وتوازننا. وكذلك المجتمع محكوم بالتنافس والصراع،
لكن ثمة فيه أيضاً إرادة جمعية أعلى تشده إلى الخير. إن خلاص طبيعتنا
العضوية يكون في نيل الصحة، ويكون خلاص كائننا الاجتماعي في نيل الخير،
ويتحقق خلاص نفوسنا، بالتالي، في نيل المحبة. إن خلاص نفوسنا يتم بعبورها
من الصورة السلبية للحرية الأنانية، المتمثِّلة بالفوضى، إلى الصورة
الإيجابية للحرية ممثلة بالوعي والمحبة*
*المثالية والتحقيق *




*تبدو المثالية للوهلة الأولى عصية على التحقيق، ولهذا يعدّها الكثيرون عكس
"الواقع" الذي لا يحكمه أي انتظام. والحق إن فهمنا للواقع فهم سطحي غالباً،
إذ يقتصر على رؤية المتناقضات دون فهم أصولها، ودون رؤية حركتها الكلية في
صيرورة الوجود الغائية. *

*"إن المتعارضات لا تجلب الشواش إلى العالم، بل التناغم." وتؤيد الفيزياء
الحديثة هذه الرؤيا، حيث تولّد المنظومات الشواشية حالات الانتظام الذاتي.
إن ما ندركه من إيقاعات في الكون لا يمكن أن ينتج عن مصادفات الصراع، بل إن
مبدأه الأساسي هو الوحدة، سرّ الأسرار كلها. وهكذا، كما يتجلى الواحد في
التنوع والكثرة، فإن الواقع لا يحقق معناه إلا في مثالية الوحدة. *

*يختبر الإنسان تحقق هذه المثالية في أشكال بسيطة وكثيرة، ففرحنا بطفل أو
بزهرة أو بمحبة الآخر تغمرنا أو بفهم الكون والحياة، كلها مظاهر لتحقُّق آني
يفجّر مرّة بعد مرّة توقنا إلى اللامحدود. ومع ذلك، فإننا ننساق أحياناً في
بحثنا عن المعرفة وراء القوانين العامة، فنعتقد مثلاً أن قانون الجاذبية
يفسّر لنا علاقة الأجسام بعضها ببعض، في حين أن مفهوم الجاذبية نفسه لا يزال
غامضاً وبلا تفسير علمي. وكذلك الأمر بالنسبة للتطور؛ فالعبور من مملكة إلى
مملكة ومن نوع إلى نوع يدهشنا إلى حدّ ينسينا معه أن مفهوم التطور بذاته
لايزال سراً أدق وأعمق. والحق أن مفهومي الجاذبية و التطور يحملان بذاتهما،
فيما يتعدى القوانين، رؤيا كلية تجمعنا مع العالم وتوحِّدنا معه في تناغم
كلي. إن القوانين تفتح لنا نوافذ على كلية الكون، لكنها، إذا ما وقفنا
عندها، تحدّ من فهمنا الأعمق والكلي للظاهرة. فعندما نحلل قصيدة ما نصل إلى
قوانين لحنية وإيقاعية وفكرية وشكلية، لكنها ليست القصيدة، ولا ما يصلنا
منها ويوحدنا معها. كذلك علينا في تأملنا لقصائد الكون ألا نغرق في تحليلها
على حساب تناغمنا وتواحدنا معها. وهذا ما يحصل عندما ينصبّ العلم على دراسة
القوانين السببية، فتغيب عنه رؤية المعنى الأعمق لموضوعه بما هو مرتبط به.
إن شكل القصيدة كامن في قوانينها ونظمها، لكن روحها كامن في جمالها الذي
يحرك روح الجمال فينا. القانون هو الخطوة الأولى نحو الحرية، لكن الجمال هو
تحقيق الحرية كاملة، من حيث إن الجمال يناغم في ذاته المحدود واللامحدود،
القانون والحرية. *

*يتحقق المثال بالنسبة لطاغور بالمحبة والعمل، ويتجلى في الجمال واللانهاية: *

*آ. التحقيق في المحبة: *

*المحبة كمال الوعي. وبالتالي، يشير نقص فهمنا إلى عدم كمال محبتنا.
فالمحبة هي كل ما يحيط بنا، وليست مجرّد إحساس عاطفي، بل الحقيقة والفرح،
أصل كل شيء. فإذا كان وعينا مشوشاً، وكانت محبتنا لا تزال تحبو، فكيف نستقبل
هذا العالم ونتناغم معه وهو عطاء كامل من الفرح؟ إن قبول عطاء الحبيب لا
يكتمل إذا نظرنا إلى الهدية بمنظور الإفادة. ولكن عندما نأخذ الهديّة كهدف
بذاته، ونرى إلى أهميتها بذاتها، فإننا نقبل العطاء على أنه الكل وقد وهب
الكل. ذلكم مثال المحبة، أن نعطي بفرح كما أخذنا بفرح، فنعي أن الكون هو
نحن، وأننا الكون. *

*ب. التحقيق في الفعل: *

*إذا حاولنا تحقيق اللانهائي خارج نطاق الفعل والعمل فلن نصل إلى نتيجة.
فالحياة الروحية الحقّة توازِن بهدوء بين الداخل والخارج، فيصبح العمل
الخارجي عملاً على الذات؛ وينعكس بالمقابل عملنا على أنفسنا على حياتنا
لتصبح أكثر فرحاً ولاتعلقاً وإبداعاً. وهكذا نكرس أي عمل ننجزه لله؛ وهذا يعني
تكريس الروح في كل ما تفعل لله، وتلكم هي حريتها. وتولد الغبطة عندما يصبح
كل عمل نقوم به طريقاً إلى الاتحاد بالله. *

*تقول الأوبانيشاد: "إن المعرفة والقدرة والفعل من طبيعته." لكننا لم نصل
بعد إلى وعي ذلك وعياً طبيعياً فينا، ولهذا نميل إلى فصل الفرح عن العمل.
فالعمل مرتبط عندنا بالحاجة، ولهذا لايكون يوم عملنا يوم فرح، بل يوم تعب،
ولهذا يلزمنا يوم راحة وعطلة. وغالباً ما نبحث عن الفرح في هذا اليوم بطرق
مختلفة، لكننا لا نبلغ في مسعانا أكثر من الترفيه والتسلية. أما الفرح
الحقيقي فلسنا نجده إلا عندما نستطيع أن نجد يوم عطلتنا في يوم عملنا، أي
يوم يصبح عملنا مصدر فرح لنا. يقول طاغور: *

*آه، أيها المعطي لنفسه! إذ نراك في ملامح فرحك، فهلا استطاعت نفوسنا
الطيران بحماس نحوك مثل الشعلة، والجري إليك مثل النهر، والتماس كيانك كله
مثل عطر الزهرة؟ ألا أعطنا قوة المحبة؛ أن نحب بامتلاء حياتنا في أفراحها
وأتراحها، في نجاحها وفشلها، في ربحها وخسارتها! هلا كانت لنا القدرة أن
نرى ونسمع كونك وأن نعمل فيه بكامل حماستنا! أن نحيا الحياة التي أعطيتنا
بامتلاء، وأن نأخذ ونعطي بشجاعة. *

*ج. تحقيق الجمال: *

*مادام تحقيقنا للجمال والحق ناقصاً سيظل ثمة بالضرورة انقسام بين المعلوم
والمجهول. فكما في العلم، يدخل إحساسنا بالجمال كل يوم مواقع لمّا تُكتشَف
بعد. لكن الجمال لا يُدرك في جوهره تدريجياً، لأنه ليس مجموعة أجزاء. وهو
أيضاً لا يُدرك في الخارج بقدر ما يولد من الداخل. إن الجمال مثل الحقيقة،
كلي الحضور، ولهذا فكل شيء في الوجود قادر على إعطائنا الفرح، وكل ما في
الوجود يمكن أن يعكس الجمال المشع من أعماقنا. *

*لا يوجد الخطأ والقبح في نظام الكون، بل في فهمنا وفي طريقتنا السلبية في
التعامل مع العالم. نحن من يخلق البشاعة كلما زاد إصرارنا على المضي ضد
التناغم الكوني. إن فهمنا الفيزيائي والعلمي للعالم يزيد من تفتح روح
الجمال فينا، وإن توقنا إلى المعرفة يؤجج شعلته ويذكيها في قلوبنا. وهكذا
إنما نحّول إدراكنا للعالم إلى مشاركة في الخلق والإبداع. "إن هدف حياتنا
الأكمل هو معرفة أن الجمال حقيقة؛ إنه الحقيقة الجمال." *

*د. تحقيق اللانهاية: *

*إن توقنا إلى اللانهاية، إلى الله، هو وجودنا الحق. ولا يمكننا أن نحوِّل
هذا التوق إلى مجرد رغبة، فنمتلكه كما نمتلك الأشياء الجميلة، ونضمه إلى
ذخائرنا! ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍بل إن هذا التوق، على العكس تماماً، هو
الذي يمتلك علينا حياتنا، وإذا حولناه إلى مملوك قتلنا أنفسنا. إن الروح
لتزهد بكل ما هو محدود، وتسعى في توقها إلى اللانهائي إلى التحرر من ربقة
هذا العالم، وهي بذلك فقط إنما تعبّر عن حقيقتها السامية. إنها مثل الطائر
الذي يعرف عندما يحلق في السماء أن السماء بلا حدود وأن جناحيه لا يستطيعان
حمله إلى ما وراءها وإلى آفاقها اللانهائية. إنما في ذلك فرحه! فرغم أن
السماء تكفيه وتزيد عن حاجته للطيران والتحليق، لكن الضرورة ليست بكافية
لتسبب فرحه. إن حاجته إلى الطيران ليست مبعث سروره حين يفرد جناحيه للآفاق
البعيدة. ذلك إنه يشعر أن ما لديه أكبر بما لا يحدّ ‍‍‍مما يحتاج أو يفهم!
كذلك تحلق روحنا في سماء اللانهاية وهي تشعر أن عدم قدرتها الآنية على
الوصول إلى كمال إدراكها يحمل مع ذلك فرحها العلوي وحريتها الأخيرة. كذا
يهب الإنسان نفسه إلى اللانهائي، فتكون غبطته أشبه بالقطرة وهي تغيب في
المحيط. *

*الإنسان غير كامل في ظرفه الحالي، لكنه يسعى إلى الكمال. إنه ضئيل في
موقفه اليوم، لكنه لو ظل واقفاً حيث هو الآن فإنه سيخلق الجحيم القابل
للتخيل الأكثر هولاً. فالإنسان لانهائي، وبقاؤه حيث الضرورة يفقده معناه.
لهذا فهو يعرف الله بالحرية والفرح والمحبة. إن العقل ينفصل عن الأشياء
ليدركها كراصد لها، في حين يحب القلب الأشياء فيعرفها بالاتحاد معها. ومثل
هذه المعرفة المباشرة لا تحتمل الشك، ولا يتم لنا ذلك إلا لأننا فُطِرنا على
ما لا يحدّه الزمان والمكان، وجُبِلنا بالوحدة الكاملة لروح اللانهاية. *

*عندما يتم الاتحاد، يختار الروح الأعلى روحنا عروساً له، فيكتمل الزفاف،
وتُنشد الترتيلة الخالدة: "فليكن قلبك وقلبي سواء." ويقول طاغور: "لا مكان
في هذا العرس للتطور والمراحل والإرشاد. إنه الحضور الذي لا يُعبّر عنه."*

                                        
طاغور الهنود     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق