السبت، 15 ديسمبر 2012

عقيدة التقمص في فلسفة جبران خليل جبران



        عقيدة التقمص في فلسفة جبران خليل جبران \ ونظرة خاصة

        عقيدة التقمص في فلسفة جبران خليل جبران \ ونظرة خاصة



        إن عقيدة التقمص ركن رئيسي في الرؤية الجبرانية للانسان والوجود ,
        ناهيكم عن ايمانه الكبير بفكرة وحدة الوجود والذات العظمى ويمكن من
        خلال هذه الاركان تفسير وفهم مقولات جبران الفلسفية - الفكرية



        كان جبران شديد الإيمان بفكرة التقمص في كتاباته وحياته الشخصية أيضًا

        فهو يؤكد في إحدى رسائله إلى ماري هاسكل أن عنده شعورًا واعيًا بكونه
        عاش حياة بشرية في الماضي. كما يقول لها، في رسالة أخرى في العام
        1911، أنه "في حيواتـه الماضية عاش مرتين في سورية، لكنما لفترات
        قصيرة، ومرة في إيطاليا إلى سنِّ الخامسة والعشرين، وفي اليونان حتى
        الثانية والعشرين، وفي مصر حتى الشيخوخة، وعدة مرات – ستَّ مرات أو
        سبعًا ربما – في بلدان الكلدان، وواحدة في كلٍّ من الهند وفارس" ويردف
        أنه في هذه الحيوات كلِّها كان "كائنًا بشريًّا، لكنه لا يعرف شيئًا عن
        حيواته قبل ذلك"


        ويؤكد ميخائيل نعيمه، في مقدمته للمجموعة الكاملة لمؤلَّفات جبران
        العربية أن "جبران الذي كان يؤمن أوثق الإيمان بالتقمص ما كان يحسب
        ولادته في شمالي لبنان مصادفة عمياء، بل كان يعتقدها نتيجة لازمة
        لحياة سابقة"



        ويمكن لنا أن نتبيَّن الأهمية المحورية لعقيدة التقمص في فكر جبران
        وأدبه من خلال تصفُّح كتبه
        إذ يكاد ألا يخلو واحدٌ منها من نصٍّ يدور حول هذه الفكرة أو من إشارة
        إليها.

        ففي كتاب عرائس المروج (1906)، نجد نصَّ "رماد الأجيال والنار
        الخالدة" الذي تعود فيه روحا ناثان وعروسه إلى الحياة بعد قرون،
        لتصلا ما قَطَعَه الموت من حبِّهما.

        وفي كتاب الأرواح المتمردة (1908)، تؤمن بطلة قصة "مضجع العروس"
        بأن مضجع الحبِّ الحقيقي ينتظرها بعد موت جسديهما.

        وفي كتاب دمعة وابتسامة (1914)، يقول جبران في نصِّ "نشيد الإنسان":
        "أنا كنت منذ الأزل، وها أنا ذا، وسأكون إلى آخر الدهر، وليس
        لكياني انقضاء."

        أما في قصيدته المواكب (1919)، فيؤكد جبران على العَوْد الأبدي، إذ
        لا تفنى الذرات في الجسد ولا في الروح؛ وهو يشبِّه فيها الجسم برحم
        تستكين فيه الروح ريثما يأتيها "الموت"، الذي ما هو في الحقيقة إلا
        عهد مخاض تولد فيه من جديد:


        ظـلَّ الجميعُ فلا الذرَّاتُ في جَسَـدٍ * تُثـوَى ولا هيَ في الأرواحِ تُحتضَرُ

        والجِّسـمُ للـرُّوحِ رحْمٌ تَسـتكنُّ به * حـتى البلـوغِ فتستعلِـي وينغـمرُ

        فهيَ الجنِينُ وما يومُ الحِمام سـوَى * عهدِ المخاض فلا سـقطٌ ولا عسرُ




        وفي كتاب المجنون (1918)، يتحدث عن "الحيوات السبع" على الأرض.

        أما في كتابه العواصف، الذي تزامن صدورُه مع صدور كتاب السابق، فنجد
        الأمير والشاعر البعلبكي، اللذين عاشا سنة 112 قبل الميلاد في
        مدينة بعلبك، يعودان إلى الحياة في مدينة القاهرة سنة 1912 للميلاد.

        أما كتاب السابق، فقد خصَّصه جبران بالكامل لبسط رؤيته عن التقمص.
        فهو يقول، في النصِّ الأول من الكتاب، إن الإنسان "سابق نفسه"، بمعنى
        أن وجوده، كجوهر أصلي، سابق لتجسده كفرد يعيش في هذه الحياة.
        فالإنسان في الأصل كان فكرة هائمة في الضباب أو كلمة صامتة بين
        شفتي الحياة المرتعشتين. وعندما اشتاقت الفكرةُ إلى الحياة، وتلَّفظتْ
        الحياةُ بكلمتها، بَرَزَ الإنسانُ إلى الوجود، وقلبُه خافق بتذكارات
        الأمس والحنين إلى الغد. وما أمس الإنسان سوى انتصاره الدائم على
        الموت؛ وما غده سوى انتظار الميلاد الجديد، الذي يخلِّصه من الحياة
        السابقة ليفتح أمامه أبواب حياة جديدة. فالإنسان بداية متجددة،
        وسيبقى بداية إلى الأبد. فالظل الذي ينبسط أمامه عند شروق الشمس
        سيتقلَّص تحت قدميه عند الظهيرة؛ وسيعقب هذا الشروق شروقٌ آخر، فيُحدِث
        ظلاً ثانيًا، سيتقلَّص بدوره في ظهيرة أخرى. ووجود الإنسان على هذه
        الأرض مثل ذلك الظلِّ، الذي ما أن ينبسط حتى يتقلَّص، ريثما تشرق شمس
        ولادة ثانية تعيده إلى الحياة من جديد.

        إلا أن هذه العودة الدائمة إلى الحيوات المتعاقبة ليست بغير معنى
        أو هدف. فالإنسان، في كلِّ دورة من دورات الحياة، يقيم "أبراجًا" تكون
        أساسًا لحياته التالية. فما يزرعه فيها سوف يحصده في الحياة
        اللاحقة. وبذلك يمكن له أخيرًا أن يحقق "ذاته الجبارة" التي هي
        الهدف الأسمى للوجود الإنساني.


        ونفهم من نصِّ "المحبة" أن هذه "الذات الجبارة" هي نقيضة "الذات
        الضعيفة". فالذات الضعيفة هي التي تجوع وتعطش وتستهويها الرغائب؛
        وهي التي تموت وتفنى في كلِّ دورة من دورات الحياة. أما "الذات
        الجبارة" فهي الخالدة، لأنها لا تشرب إلا من قدح ملأتْه المحبة، أو
        كأس باركتْها. وإذا كانت الذات الضعيفة تملأ الإنسان بفقاقيع الغرور
        (نص "الملك الناسك")، فإن الذات الجبارة تحثه على أن يستبدل
        بالمملكة الزائلة غابةً تترنَّم فيها الفصول، ليفهم أسرار الغبراء،
        وينظر إلى الحقِّ عاريًا، ويتأمل الجمال سافرًا. فالذات الجبارة تجعل
        من المولود ملكًا دون مملكة، ومن الرجل المسود بجسمه سائدًا بروحه؛
        إنها الذات التي تطل من أعماقنا (كما في نصِّ "الذات العظمى")
        لتذكِّرنا بتفاهة المكاسب التي نحقِّقها في حياتنا المادية. فلو كان
        الملك أنبل وأشد بأسًا وأوفر حكمة، لما اختار أن يكون ملكًا في حياة
        لن يلبث أن يغادرها سريعًا إلى حياة أخرى!


        وفي نصِّ "طائر إيماني" نرى "ذات الإنسان الفُضلى" تزداد كبرًا كلما
        ارتقت من حال إلى حال: ففي كلِّ دورة حياتية تكتسب المزيد من المعرفة
        الجامعة القديرة التي تجعلها تتحرَّر من قيود اللحم والعظم، وتنبثق
        محلِّقة في عالم اللاحدود، حتى ترتسم على أديم السماء. أما في نصِّ
        "وراء وحدتي"، فنجد ذات الإنسان السجينة في الجسد الذي حلَّتْ فيه في
        إحدى حيواتها تعي أن وراء وحدتها في هذه الحياة وحدة أبعد وأقصى.
        وهي تتوق إلى تلك الوحدة العلوية المقدسة، وتدرك أن لا سبيل إلى
        ذلك إلا بالتسامي على أشياء الواقع المادية وتجاوُز رغائبه
        المتعاقبة. كما لا يمكن للفرد بلوغ ذاته الحرة الطليقة قبل أن يصير
        جميعُ الناس أحرارًا طلقاء. فلا بدَّ أن تذوي الجذور التي تتشبَّث بظلام
        الأرض قبل أن تطير الأوراق مترنمة في الريح؛ ولا بدَّ للفراخ من أن
        تغادر عشَّها قبل أن يحلِّق نَسْرُ الروح أمام جوهر الشمس – وجه الحقيقة
        المطلقة أو وجه الروح الكلِّي الخالد.

        وفي النصِّ الأخير من الكتاب، الذي وضع له جبران عنوان "اليقظة
        الأخيرة"، نرى "السابق"، بعد أن عبر دورات حياته المتعاقبة، وتخلَّص
        من ذواته المستعبَدة فيها، واغتنتْ ذاتُه الجبارة بما اكتشفتْه من
        معارف وأسرار، وما اكتنزتْه من تجارب وخبرات – إذا به ينهض في يقظته
        ليمشي مطلقًا عاريًا، ويخاطب أرواح النائمين المستيقظة، معلنًا
        الحقيقة العظيمة التي تجلَّت له – وهي المحبة. فلا أساس لهذا العالم
        سوى المحبة، ولا جوهر لهذا الوجود سواها. والمحبة واحدة لا تتجزأ:
        فهي تشمل الجميع، كما لو كانوا واحدًا؛ وتشمل الواحد، كما لو كان
        الجميع؛ وتشمل القوي والضعيف، والسقيم والسليم، والغني والفقير،
        والمبدع والمقلِّد، والمؤمن والكافر، والخيِّر والشرير.

        وإذا كان الناس لا يقوون على شرب المحبة من النهر الفيَّاض، فإن في
        وسعهم أن يرتشفوها من القدح الصغير. لذلك كان لا بدَّ له، لحاجته إلى
        قربه من الناس، أن يتظاهر بالجفاء. وخوفًا منه على دنوِّ قضاء محبتهم،
        راح يقوم على حراسة سدود محبَّته. إلا أنه يدرك في قلبه أن المحبة
        المحتقَرة في عريها لأعظم من المحبة التي تنشد الظفر في تستُّرها
        وتنكُّرها. لذلك يخجل من ذاته، ويرفع رأسه باسطًا ذراعيه، معلنًا أن
        الليل قد ولَّى. وعندما يأتي الفجر فلا بدَّ لنا – نحن أولاد الليل –
        أن نموت كي تنبعث من رمادنا محبةٌ أقوى من محبتنا – محبة تضحك في
        نور الشمس، وتكون خالدة مثل خلودها، ومثل خلود الحقيقة المطلقة
        وخلود الذات الجبارة العظمى.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق